التنمية الإنسانية في مجتمعات محافظة؟

من قسم:
التطور المهني
منشور:
مارس 2016
2016

عيساوي محمد- رئيس كلية القاسمي الاكاديمية
 

مقدمة:

إنّ الحريّة والحقوق الإنسانيّة، وخاصة حقوق المرأة، والمعرفة بمستوياتها الثلاثة اكتسابًا، وإنتاجًا وممارسةً تعتبر شروطًا ضرورية لعمليّة التنمية الإنسانية؛ حيث أن طريق التنمية الإنسانية في مجتمع محافظ ذو بنية أبوية- بطريركية، منقوص الحقوق،والحريات، وفقير بإنتاج المعرفة محفوفٌ بالتصادم والمقاومة من غالبية أفراد المجتمع.الحراك نحو مجتمع إنساني هو من مسؤولية النخب التي ينبغي أن تسبق الأمّة بخطوات فساح، وتجرؤ على نشر الفكر الديموقراطي الإنساني، واعمال العقل والمنهجيّة العلميّة، واعتماد الدراسات والأبحاث في حل قضايا المجتمع.

إنّ التعليم الذي يحتاجه المجتمع العربي هو ما يصدمه، ما يزعزعه، ويحركه ويخرجه من توازنه الثابت، إنه التعليم بمنظوره الإنساني النقدي الذي يجابه المجتمع القائم بجميع مظاهره ومؤسساته. وهذا يبدأ بطرح رؤية مستقبلية من قبل المفكّرين/ات ذوي/ات منظور تربية انسانية نقدية، ويجرؤون على إعمال العقل الفاعل، وإخراج الموروث الثقافي من القدسية ومن دائرة الاستهلاك والاجترار، والتعامل مع الدين من وجهة نظر اجتماعية لتعزيز قيم الأخوّة، والمحبّة، والإنصاف، والمساواة، وتحييد الحركات الظلاميّة وتهميشها .

توطئة ووصف حالة:

تُعتبر المجتمعات العربية ذات بنية حمائلية أبوية ذكورية منقوصة الحقوق الإنسانية، وخاصة حقوق المرأة، وفقيرة بإنتاج المعرفة-قاطرة التنمية-، حيث يسود فيها الخطاب الخرافي والغيبيات، ويقدّس فيها الموروث الثقافي الذي يرسّخ ثقافة النظام الحمائلي ويهمّش المرأة، وتتقدم فيه النصوص الدينيّة والتقاليد الجامدة على الفكر العلمي والعقلانية، هكذا تضع المجتمعات العربية نفسها بالطرف المستهلك للمعرفة المتدفّقة من الغرب -مصدر رأسمال المعرفة-، وخاصةّ التكنولوجيا الذكيّة التي أصبحت أداة تواصل بين النّاس، وخاصةّ الشباب منهم الذين يواجهون واقعًا معيشيًّا متدنّيًا، وحكمًا استبداديًّا مقابل الانكشاف على مجتمعات معرفة إنسانية متقدّمة تفسح آفاق المعرفة الإنسانية الواسعة وفرص العمل أمام الجيل الجديد، ممّا أثار الشباب العربي المقهور إلى ثورة "الربيع" العربي ونجح في إسقاط بعض الأنظمة بواسطة التقنيات الذكية وفرض نهجًا ديمقراطيًّا في اختيار نظام جديد، إلّا أنّ النظام الجديد الذي وصل للحكم بإسم منظومة القيم الديمقراطية فشل في ممارستها على أرض الواقع وذلك لنقص في البنية الفكرية للثقافة الديمقراطية في المجتمع.

إنّ عملية الانتقال من مجتمع أبوي- بطريركي منقوص الحقوق وفقير بإنتاج المعرفة إلى مجتمع مدني إنساني يصون الحريات والحقوق الإنسانية بحاجة إلى تأسيس بنية فكريّة عقلانيّة نقدية تبث الثقافة الديمقراطية من جهة، وتتصادم من جهة أخرى مع الثقافة السائدة في البيت، والمدرسة، والحي، والمجتمع كافة لترسيخ منظومة القيم الديمقراطية.

لقد جاءت الثورة الفرنسية ومرحلة التنوير في أوروبا، والتي تحمل معها قيم الحريّة، والمحبّة، والأخوّة عقب نشر الفكر النقدي التقدمي وإرساء بنية فكرية لثقافة ديمقراطية تصون الحقوق الإنسانية والتي طالت أكثر من قرنين، حيث خرج المفكرون أمثال لوثر، وفولتير، وكانت، وغيرهم عن المألوف وعن المفهوم ضمنًا وعن منظومة القيم السائدة آنذاك، ونجحوا في تأسيس بنية ثقافية ديمقراطية لدى غالبية الطبقات، والفئات المختلفة من المجتمع حتى أصبحت منظومة القيم الديمقراطية والنهج العقلاني جزءًا من منظومة قيم العائلة.

إنّ الأقلّية العربية في إسرائيل تعيش بين فكي كماشة، تعاني من الإقصاء والتهميش والتمييز من قبل السلطة المركزية، من جهة، وتعاني من معيقات داخلية مشابهة للمجتمعات العربية كافة، من جهة أخرى، ويمكن تلخيصها بثقافة الحمولة السائدة وإقصاء وتهميش المرأة، دلالة على ذلك، صور الانتخابات للسلطات المحليّة، ومكانة المرأة المتدنّية في مجالات الحياة المختلفة حتى في مجال مهنة التعليم التي تمثل المرأة غالبيّته في المدارس الابتدائيّة، إلّا أنّ نسبة المديرات ضئيلة والأمر لا يثير تساؤلات. كما أنّ هناك انعدام أو شحاحة تمثيل النساء في السلطات المحلية العربية، إذ أنّ التعليم العالي لم ينجح في التحرر من النظام الحمائلي ولم يرفع منسوب الحرية، ومكانة المرأة بشكل ملحوظ، وكأن التعليم في وادٍ والثقافة في وادٍ آخر، والمفارقة البارزة أنّ العرب في إسرائيل يناضلون من أجل المساواة، واحترام الحقوق الإنسانية أمام الدولة ومؤسساتها، ولكن هذه القيم تختفي عند وصولهم مشارف بلداتهم وعتبات بيوتهم. وبقي التعليم وظيفيا ولم يؤد دوره في الحراك التنموي الإنساني نحو قيم الحريّة، والعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد. فالعلم كمعارف،وتقنيات ذكية،والآلات يشكل صورًا خارجيّة تقدميّة تتناقض غالبًا مع الثقافة السائدة في المجتمع،لأن التعامل مع المعرفة المستوردة اكتسابا، وممارسة وبدون المشاركة في انتاجها لا يسهم في وعي وتذويت قيمها والتي عمادها الحريّة، والانكشاف، والتفكير الإبداعي،والابتكار، والتواصل المفتوح بين الناس.

في ظل هذا الواقع، يخضع الطفل لثقافة المجتمع الذي يولد فيه، يلقّنه الكبار من أسرته ماذا يجب أن يعتقد؟ وكيف يسلك؟ وحدود التفكير ضمن نواهي وأوامر، وضوابط واضحة تميّز بين الحلال والحرام، المسموح والممنوع، والصح والخطأ، وتقدّس الموروث الثقافي الذي غالبا ما يكون مغيّب للعقل ومشحونًا بقصص وأساطير خرافيّة تنمّي لدى الطفل شعورًا بالخوف وفي كثير من الأحيان عدم قول الصدق؛ إنّتربية الأسرة وأطر التعليم الرسمية غالبًا ما تكون بعيدة  عن التربيّة النقديّة والمنهجيّة العلميّة واعمال العقل الفاعل، خوفًا من التصادم مع منظومة القيم السائدة في المجتمع. 

في غياب تربية نقدية وتعليم محرر تغذّي الثقافة السائدة نفسها وبشكل دائري مغلق ومستديم، وتورث الخطاب التقليدي وتقديس الموروث الثقافي. فينشأ الشخص تواكليا، ولا يتحمل المسؤولية عن أعماله، ويفقد قدرته على التحكّم في حياته ومستقبله، ويولد لديه مشاعر تقليل الذات والخنوع لذوي النفوذ،وعدم القدرة على إدارة شؤونه، والخوف من المغامرة، والتغيير،والتفكير الإبداعي، والابتكار. هكذا، يتحوّل دور جهاز التعليم من رافعة للتنمية الإنسانية إلى أداة للسيطرة وتثبيت الواقع والحفاظ على مكانة وسيادة أصحاب السلطة، ويُسهم في تشكيل الوعي السلبي لدى الأشخاص ويجعلهم يستنبطون صورًا سلبية عن ذواتهم مما يجعلهم أكثر تشاؤما.

آفاق عمل ممكنة ومنشودة في جهاز  التربية والتعليم:

هذه الرؤية بحاجة إلى سياسة تربوية جديدة تتلاءم مع الرؤية الإنسانية النقدية حتى يستطيع جهاز التعليم العربي أن يعمل  بمنظور إنساني ونقدي، ويقدر على إنتاج معرفة وتقنيّة عالية تتنافس مع السوق العالميّة بامتياز من جهة، ويُذوّت القيم الديمقراطية، واحترام الحقوق الإنسانية لدى المعلمين والمتعلمين من جهة أخرى. السياسة التربوية الجديدة تتعلق بطرفي الكماشة المعيقَيْن للحراك التنموي الإنساني،أولاً، تغيير جذري لدى أصحاب القرار  في الدولة اتجاه العرب كأقلية قومية ومواطنين متساوي الحقوق، والتعامل معهم باحترام وندية من قبل مؤسسات الدولة،وثانيًا وبالتوازي الحاجة الماسة لقيادة عربية جماهيرية جريئة قادرة على استثمار الطاقات في المجتمع وقادرة على تحمل مسؤولية التصادم بين قيم التنمية الإنسانية وبين قيم مجتمع أبوي محافظ لتحريك عملية التنمية الإنسانية بأبعادها المختلفة نحو مجتمع معرفة إنساني قادر على اختراق ثقافة الآخر بامتياز.

حتى تصبح التربية الإنسانية النقدية منهجا قابلاً للتطبيق في عملية إعداد المعلمين والعاملين في التربية عامةً في جهاز التربية والتعليم العربي وخاصة، ينبغي العمل على ثلاثة جوانب لدى الفئات العاملة في التربية: 1.الجانب  الإدراكي؛اكتساب معرفة، تطوير الوعي النقدي وصياغة جديدة لمناهج التعليم كي تتلاءم مع التربية الإنسانية النقدية، تطوير سيرورات لتذويت الالتزام بقيم التربية الانسانية النقدية وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان، بحث ونقاش حول ماهية وظيفة عامل التربية كوكيل للتغير الاجتماعي، تطوير مهارات تفكير،بحث ونقاش لحل قضايا عامة وخاصة تتعلق بمعيقات التنمية الإنسانية في المجتمع العربي .2.الجانب الوجداني؛تطوير مواقف إيجابية اتجاه التربية الإنسانية النقدية والتضامن الحسي مع مبادئها وأهدافها. 3. الجانب السلوكي؛ممارسة عملية للتربية الإنسانيّة النقدية بجميع أبعادها التعليمية و التربوية والاجتماعية، تعزيز الحوار النقدي المفتوح، الإصغاء واحترام الرأي الآخر، مرونة واستعداد لتغيير مواقف وأراء،تطوير قدرات تربوية، ومشاركة اجتماعية.

 

الفئات العاملة في التربية:

1.مديرو المدارس؛ تقع عليهم المسؤولية الأولى لقيادة التغيير في الثقافة التنظيمية للمدرسة وتعزيز منحى التربية الإنسانية النقدية، وعليه ينبغي إعدادهم وتمكينهم بدورات خاصة تأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي والمعيقات في صياغة وتطبيق منحى التربية الإنسانية النقدية في مجتمعات محافظة لخلق أجواء ديمقراطية يكون الحوار الإنساني أساسها.

2. المعلمون؛يعتبر المعلم العنصر الأساسي في العملية التربوية والتعليمية، عليه أن يعرف، ويطبق ويذوّت قيم التربية الإنسانية النقدية، وأن يتعامل مع طلابه كشركاء فاعلين في العملية التربوية والتعليمية وذلك بإضفاء الأجواء الديمقراطية وتعزيز الحوار الإنساني النقدي معهم، مما يطور الوعي النقدي المتفائل لدى الطلاب ويؤدي إلى تفاعلهم مع العالم كشركاء فاعلين في بناء الحضارة الإنسانية.

3. الطلاب المتدربين (للتدريس) في الجامعات وفي كليات اعداد المعلمين؛كما هو مبين أعلاه، ينبغي اعتماد منحى التربية الإنسانية النقدية الشامل بأبعاده المتعددة في عملية إعداد المعلمين. على أن تكون عملية الإعداد مرنة، ديناميكية ومستديمة وتشمل مضامين ومهارات تتلاءم مع التربية الانسانية النقدية ومع السياق الثقافي للطلاب المتدربين. إنّ مواقف معلمي المعلمين لها أثر بالغ الأهمية على نظرتهم للواقع وللآخر. هذه المواقف تؤثر على الطلاب المتدربين بشكل مباشر وغير مباشر.لذا على معلمي المعلمين أن يعوا قيمهم ومواقفهم وأن يذوتوا قيم التربية الانسانية النقدية وأن يطوروا مواقف إيجابية اتجاه الحوار النقدي، وذلك من خلال سيرورات إعداد فعّالة للطلاب المتدربين نظريًا وتطبيقيًا، حيث يبحث معلمو المعلمين والطلاب المتدربين معا بشكل منهجي ومتتابع وبحوار نقدي وتفكير إبداعي في قضايا خلافية مركزية في واقع المجتمع ودور التربية في ترميمه بواسطة قراءة ناقدة لكتابات، ومقالات متنوعة، وأفلام وثائقية،ولقاءات مع شخصيات تربوية ومفكرين من ثقافات متعددة ومع ممثلي فئات وأطر مختلفة من المجتمع.

والسؤال: كيف يمكن تحريك عملية التنمية الإنسانية وتطبيق التربية الإنسانية النقدية في ظل هذا الواقع؟ 


التحديث: يونيو 2021
الكلمات المفتاحية:
انتاج المعرفة | تنمية انسانية | رؤية نقدية | مجتمع محافظ