زبيدات ايهاب- محاضر في كلية سخنين لتأهيل المعلمين، ومركز المعلمين الجدد، علم النفس
منذ أن اوجد الله سبحانه وتعالى الإنسان زرع فيه الكثير من الميزات التي توارثها من جيل إلى آخر كالحاجة إلى الأمان والفرح والحزن والخوف والحاجة لبناء علاقات اجتماعيه وعاطفيه مع الآخرين. فالإنسان بطبيعته يعتبر مخلوقا اجتماعيا-عاطفيا منذ اللحظات الأولى من الحياة وحتى الممات. في مراحل الحياة المبكرة كالطفولة والمراهقة هذه الجوانب الاجتماعية والعاطفية تكون بسيطة، قصيرة المدى ومتغيره من وضع إلى آخر ولكن مع مرور الوقت وعند الانتقال من مرحلة نمو إلى أخرى تتعقد أكثر فأكثر وتأخذ صورا ثابتة نسبيا على مدار مراحل النمو المتأخرة كالبلوغ والشيخوخة.
مع بداية السنة الأولى من الحياة يكتسب الطفل العديد من المهارات الاجتماعية خلال تفاعله مع أمه والتي تزيد من تواصله معها من أجل تلبية احتياجاته الجسدية كالجوع والنظافة والتواصل الجسدي والنفسية كالدفيء والحنان، التي تعتبر أساسيه في تطوره العاطفي فيما بعد وبناء ثقته بنفسه. هذه العلاقة العاطفية-الاجتماعية الأولى والمميزة التي تشكلها الأم مع طفلها تؤهلها لأن تدرك جميع حاجياته ومشاعره وان تجيب عليهم بسرعة وبفعالية.
تشير الأبحاث في علم النفس أن المشاعر لدى الأطفال تبدأ بالظهور بجيل ثلاث أشهر ولكنها تكون بسيطة وتتمثل بالبكاء والابتسامة ولكن في النصف الثاني من السنة الأولى من الحياة تظهر مشاعر أخرى كالغضب والخوف والمفاجأة والضائقة من الأشخاص الغرباء وإدارة المشاعر من قبل الأم. وقد أكد العالم جون بولبي في نظريته المسماة " بالاتصال" بين الطفل وألام في السنة الأولى من الحياة أن هذه الظاهرة تعتبر ظاهره عالميه لأنها تحدث في جميع الحضارات ولكن هنالك فروق شخصيه في جودة العلاقة العاطفية التي تشكل بين الأطفال وأمهاتهم، مما جعل الباحثة ميري انسفرت المؤيدة لهذه النظرية أن تصنف التواصل إلى أربعة أنواع أساسيه: التعلق الآمن، التعلق المقاوم، التعلق الغير آمن، والتعلق العشوائي. بحيث أن التعلق الآمن بين الطفل وألام يحدث لدى أغلبية أطفال العالم في هذه المرحلة بينما الأنواع الأخرى من التعلق التي تعتبر غير مرغوبة لنمو الأطفال تحدث لدى اقليه الأطفال. هنالك ظروف التي تهيأ التعلق الآمن كالدعم الاجتماعي والعاطفي للام من قبل الزوج والأقارب والأصدقاء بينما هنالك عوامل أخرى التي قد تسبب تعلق من نوع غير آمن كوجود ضغوطات التي تؤدي إلى ضائقة نفسيه في حياة الأم.
مع بلوغ السنة الثانية من الحياة يتناول مسار التنشئة الاجتماعية (الجتمعه) دورا كبيرا في حياة الأطفال نسبة إلى تطورهم العاطفي والاجتماعي، بحيث انه من خلال هذا المسار يكتسب الأطفال قيم ومبادئ ومعايير اجتماعيه وأخلاقيه وعاطفيه التي تؤثر في سلوكياتهم خاصة وان هذه العناصر المكتسبة تذوت إلى داخل مبنى شخصية الأطفال عندما يلقنهم الآباء إياها مرة تلو الأخرى. لذلك تظهر تطورات جديدة في المجال الاجتماعي التي تتعلق بتطورهم الذهني ومن هذه التغيرات نذكر انتقالهم للاستقلالية بشكل أكبر عن طريق تقليص التواصل الجسدي مع أمهاتهم من اجل اللعب واستكشاف المحيط والاكتفاء بالتواصل النفسي بواسطة استعمال اللغة وطرح السلام وتبادل النظرات.
من ناحية أخرى هنالك تغيرات عاطفيه إضافية في هذه المرحلة المبكرة وحتى جيل الروضة كوعيهم الذاتي لمشاعرهم الذاتية ووعي مشاعر الآخرين البسيطة كالفرح والحزن والشعور السلبي الذي يراودهم عندما يعزمون على القيام بشيء ممنوع، وإبداء مشاعر متحديه للآباء التي تتمثل بالعناد وعدم الانصياع إلى إرشاداتهم والشعور بالخجل خاصة لدى معاقبتهم، وتقييمهم الذاتي الايجابي لدى قيامهم بسلوكيات التي ينال فخر واعتزاز الآخرين خاصة تلك التي تتعلق بالنظافة والنظام. في هذه المرحلة يتوجب على الآباء ملائمة أنفسهم لقدرات وحدود الطفل عن طريق مساعدته في استخدام اللغة ومشاركته في استكشافاته الجديدة والسماح له بان يجرب وان يكون مستقل قدر الإمكان ومساعدته عندما يواجه صعوبات أو عراقيل.
في هذا النطاق يتوجب علينا أن نحذر الآباء من إهمال أو إساءة المعاملة للأطفال في الأجيال المبكرة، بحيث أن هذه الحالات تميل لأن تتواجد أكثر بين الأطفال بجيل اقل من 3 سنوات حسب النتائج البحثية في علم النفس. السبب لذلك هو أن الأطفال بهذه الأجيال قادرين على الإزعاج كثيرا خلال تجاربهم المتكررة الهادفة للإعلان عن استقلالهم وميولهم في القيام بسلوكيات ممنوعة خلال استكشافهم للمحيط. في هذه الظروف بعض البالغين يتعاملون تجاه هذه التصرفات كأنها عصيان متعمد أو أذى، لذلك يرون ضرورة العقاب الصارم بهدف تقويم سلوك الطفل. بالمقابل بالغين آخرين يتخلون عن العقاب الجسدي ويفضلون إهمالهم. خلال هذه التجارب السيئة، الأطفال غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم وغير مدركين لكيفية تقويم سلوكياتهم التي تعد غير ملائمة بسبب عدم توجيه هؤلاء الآباء لهم مما يحافظ على استمرارية هذه السلوكيات التي تؤدي إلى استعمال أنواع عديدة من المعاملة السيئة لهم من قبل البالغين كالإهمال الجسدي والإساءة الجسدية وعدم توفير الدفيء والحنان والرعاية والإهانات اللفظية والتحرش الجنسي.
عند الانتقال إلى مرحلة الروضة (3-5 سنوات) يتسع عالم الطفل لذهابه إلى الروضة واللعب بشكل متكرر مع أبناء جيله من الجنسين بحيث انه يتفاعل مع أطفال جدد مختلفين عن إخوته وأقاربه مما يزيد من قدراته ومهاراته في مجال العلاقات الاجتماعية عند تفاعله ولعبه مع هؤلاء الأطفال. ويكتسب اللعب في هذه المرحلة وظائف عديدة بحيث انه يشكل ورشة عمل اجتماعيه التي يكتسب منها الأطفال مهارات اجتماعيه جديدة ويتدربون على تصرفات ومفاهيم جديدة. بالإضافة إلى ذلك اللعب عبارة عن ساحة للتعبير عن المشاعر الايجابية والسلبية التي تراود الطفل خلال التفاعل الاجتماعي الطبيعي بينه وبين الأطفال الآخرين. في جيل الروضة تتحول اللعبة إلى أداة أساسيه للطفل للتأقلم على الصراعات وللتغلب على المشاعر المخيفة والمؤلمة، بحيث أن الأطفال اللذين يحصلون على الرعاية والدعم من قبل والديهم ومعلمة الروضة يميلون للعب بألعاب مرنه ومتطورة أكثر ولإيجاد حل ناجح للخلافات مع الأطفال الآخرين.
في جيل الروضة تتطور تدريجيا القدرة على تشغيل التحكم بالذات والإدارة الشخصية، ويتمثل ذلك عن طريق طاعتهم لإرشادات وتوجيهات آبائهم ولكن هذه القدرة لم تتطور كليا حتى الآن. من التطورات الأخرى التي تحدث في الذات لدى الأطفال بجيل الروضة نذكر قدرتهم على مشاهدة أنفسهم والتعبير عن سلوكياتهم ووعيهم وإدراكهم للتجارب المختلفة التي يمرون بها كاللعب والرقص والغناء والطهي وغيرها ويستطيع الطفل أيضا أن يفصل بين ميزات مختلفة من التجربة بحيث انه من الممكن أن يبكي بشكل فعلي ولكنه من الممكن أن يتباكى. وعلى مدار هذه ألمرحله يطور الطفل أجزاء مهمة من هويته الجنسية، بحيث انه في جميع الحضارات يتصرف الآباء والآخرين بشكل مختلف تجاه الذكور والإناث ويتوقعون منهم سلوكيات مختلفة. على سبيل المثال يتوقعون من الطفل أن يصبح لاعب كرة قدم ومن الطفلة أن تكون معلمه.
ومن التطورات الاجتماعية التي تحدث في فترة الروضة نذكر بناء الصلة الاجتماعية بين الطفل وأبناء جيله والتي تشير إلى قدرته للتواجد معهم والإجابة عليهم بمشاعر ايجابيه لإثارة اهتمامهم ولإكساب احترامهم ويكون قادر على أن يقودهم أو أن يقاد من قبلهم ولإقامة فعالية تبادل الأدوار معهم. لذلك الأطفال في هذه المرحلة يفضلون اللعب مع أطفال معينين وليس مع آخرين، بحيث أن هذه التفاعلات والتفصيلات قادرة على الاستمرار سنة أو أكثر. ومن الأمور التي يمكن أن يتعلمها الطفل من أبناء جيله نذكر مفاهيم العدالة والمعاملة بالمثل والتعاون والمشاركة والمساواة والاحترام وطرق التأقلم على العدوان والصراعات وحل المشاكل وتعلم قواعد وقيم تربويه وأخلاقيه وثقافيه واجتماعيه كوظائف وادوار الجنس. وبدون أي شك هذه التجارب مع أبناء مجموعة الجيل الواحد قادرة على التأثير على بناء مفهوم الذات في مرحلة الروضة. أما بالنسبة للتطورات العاطفية ففي هذه المرحلة تنمو عملية فهم المشاعر كقدرة هؤلاء الأطفال على تمييز المشاعر الايجابية كالفرح، الحب والإعجاب في البيئة الطبيعية التي يتواجدون بها ولكن حتى الآن يصعب عليهم تفسير نطاق المشاعر السلبية كالغضب والخوف والحزن والتمييز بين شعور الإنسان الحقيقي وبين ما يبدو انه يشعر (كالمرض والتمارض).
وأخيرا جميع هذه التطورات الاجتماعية والعاطفية والأخلاقية التي اكتسبها الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة (0-5 سنوات) من خلال فعالياتهم وتجاربهم المتنوعة مع الأطفال الآخرين والبالغين كالآباء والمربين تشكل تغيرات طبيعيه من اجل انتقالهم تدريجيا وبشكل منطقي إلى مرحلة الطفولة المتوسطة التي تتطلب ميزات أخرى اجتماعية وعاطفية معقده أكثر.
إضافة تعليق: